كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ تَدَبَّرْت عَامَّةَ مَا رَأَيْته مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ- مَعَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ عَنْهُ وَكَثْرَةِ مَا رَأَيْته مِنْ ذَلِكَ- هَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ أَوْ أحد مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْته مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَجَدْتهَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ: مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ: مِثْلَ دَعْوَى الْجَهْمِيَّة أَنَّ الْأُمُورَ الْمُتَمَاثِلَةَ يَأْمُرُ اللَّهُ بِأحدهَا وَيَنْهَى عَنْ الْآخَرِ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ أَوْ أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمُتَمَاثِلَةَ وَالْأَعْمَالَ الْمُتَمَاثِلَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَجْعَلُ اللَّهُ ثَوَابَ بَعْضِهَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا حِكْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقولونَهُ: كَقولهمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلُّهُ مُتَمَاثِلٌ وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ فِي بَعْضِهِ أَعْظَمَ فَمَا وَجَدْت فِي كَلَامِ السَّلَفِ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ بَلْ يُصَرِّحُونَ بِالْحُكْمِ وَالْأَسْبَابِ وَبَيَانِ مَا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْأَمْرِ بِهِ وَمَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّيِّئَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَمِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فِي نَفْسِهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ أَرَ عَنْ أحد مِنْهُمْ قَطُّ أَنَّهُ خَالَفَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ وَلَا تَأَوَّلَهُ عَلَى مَفْهُومِهِ مَعَ أَنَّهُ يُوجَدُ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ اسْتِشْكَالٌ وَاشْتِبَاهٌ وَتَفْسِيرُهَا عَلَى أَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا خَطًا. وَالصَّوَابُ هُوَ الْقول الْآخَرُ وَمَا وَجَدْتهمْ فِي مِثْلِ قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} وَقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي: «أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ» وَقوله فِي الْفَاتِحَةِ: «لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي القرآن مِثْلُهَا».
وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا مُقِرِّينَ لِذَلِكَ قَائِلِينَ بِمُوجِبِهِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ أبيا: «أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟» فَأَجَابَهُ أبي بِأَنَّهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقال: «ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ». وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ أبي وَلَا غَيْرُهُ السُّؤَالَ عَنْ كَوْنِ بَعْضِ القرآن أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ بَلْ شَهِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِلْمِ لِمَنْ عَرَفَ فَضْلَ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَعَرَفَ أَفْضَلَ الْآيَاتِ وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}. وَمَا رَأَيْتهمْ تَنَازَعُوا فِي تَفْسِيرِ {بِخَيْرٍ مِنْهَا}. فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا قرأءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ: قراءة الْأَكْثَرِينَ {أَوْ نُنْسِهَا} مَنْ أَنْسَاهُ يُنْسِيهِ وَقرأ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو {أَوْ نَنْسَأهَا} بِالْهَمْزِ مِنْ نَسَأَهُ يَنْسَاه. فَالْأَوَّلُ مِنْ النِّسْيَانِ وَالثَّانِي مِنْ نَسَأَ إذَا أَخَّرَ.
قال أَهْلُ اللُّغَةِ: نَسَأْته نَسْئًا إذَا أَخَّرْته. وَكَذَلِكَ أَنْسَأْته يُقال نَسَأْته الْبَيْعَ وَأَنْسَأْته.
قال الْأَصْمَعِيُّ: أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ وَنَسَأَ فِي أَجَلِهِ بِمَعْنَى. وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: مَنْ أَرَادَ النَّسَاءَ وَلَا نَسَاءً فَلْيُبَكِّرْ الْغَدَاءَ وَلْيُخَفِّفْ الرِّدَاءَ وَلْيُقَلِّلْ مِنْ غَشَيَانِ النَّسَاءِ. فَأَمَّا القراءة الْأُولَى فَمَعْنَاهَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ قالوا: الْمُرَادُ بِهِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ مِنْ القرآن كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ فَإِنَّ مَا يَرْفَعُ مِنْ القرآن إمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعًا شَرْعِيًّا بِإِزَالَتِهِ مِنْ الْقُلُوبِ وَهُوَ الْإِنْسَاءُ فَأَخْبَرَ تعالى أَنَّ مَا يَنْسَخُهُ أَوْ يُنْسِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ بَيَّنَ ذَلِكَ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قال قَبْلَ ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقولوا رَاعِنَا وَقولوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فَنَهَاهُمْ عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُوءِ أَدَبِهِمْ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لِحَسَدِهِمْ مَا يَوَدُّونَ أَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ أَخْبَرَ بِنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بَعْضُ القرآن يُنْسَخُ وَبَعْضُهُ يُنْسَى- كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ- وَمَا أَنْسَاهُ سبحانه هُوَ مِمَّا نَسَخَ حُكْمَهُ وَتِلَاوَتُهُ بِخِلَافِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي يُتْلَى وَقَدْ نَسَخَ مَا نَسَخَ مِنْ حُكْمِهِ أَوْ نَسَخَ تِلَاوَتَهُ وَلَمْ يَنْسَ وَفِي النَّسْخِ وَالْإِنْسَاءِ نَقُصُّ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ. فَبَيَّنَ سبحانه أَنَّهُ لَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ بَلْ كُلُّ مَا نَسَخَ أَوْ يَنْسَى فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُونَ فِي نِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لَا تَنْقُصُ بَلْ تَزِيدُ فَإِنَّهُ إذَا أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا زَادَتْ النِّعْمَةُ وَإِنْ أَتَى بِمِثْلِهَا كَانَتْ النِّعْمَةُ بَاقِيَةً وَقال تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} فَأَضَافَ الْإِنْسَاءَ إلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا الْإِنْسَاءَ لَيْسَ مَذْمُومًا بِخِلَافِ نِسْيَانِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ فَإِنَّ هَذَا إنْسَاءٌ لِمَا رَفَعَهُ اللَّهُ وَأَمَّا نِسْيَانُ مَا أَمَرَ بِحِفْظِهِ فَمَذْمُومٌ قال تعالى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} وَهَذَا النِّسْيَانُ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا مَعَ حِفْظِهَا فَإِذَا نُسِيَتْ الْآيَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يُعْرَفُ مَا فِيهَا كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا فَكَانَ هَذَا مَذْمُومًا.
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: «مَنْ قرأ القرآن ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ» وَلِهَذَا كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُضِيفَ الْإِنْسَانُ النِّسْيَانَ إلَى نَفْسِهِ فَقال فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «بِئْسَ مَا لِأحدهِمْ أَنْ يَقول: نَسِيت آيَةَ كَيْت وَكَيْت بَلْ هُوَ أَنْسَى. اسْتَذْكِرُوا القرآن فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا» ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} هُوَ مَا تَرَكَ تِلَاوَتَهُ وَرَسْمَهُ وَنَسْخَ حُكْمِهِ وَمَا أَنْسَى هُوَ مَا رَفَعَ فَلَا يُتْلَى. وَمِنْهُمْ مَنْ أَدْخَلَ فِي الْأَوَّلِ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا. فَالْأَوَّلُ قول مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَرَوَى النَّاسُ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قال: نُثْبِتُ خَطَّهَا وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا قال: وَهُوَ قول عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {أَوْ نُنْسِهَا} أَيْ نَمْحُوهَا فَإِنَّ مَا نُسِيَ لَمْ يُتْرَكْ.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كَانَ مِمَّا يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وقتادة وَعِكْرِمَةَ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَؤُهَا أَوْ تُنْسِهَا بِالْخِطَابِ أَيْ تُنْسِهَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَتَلَا قوله: سَنُقرئكَ فَلَا تَنْسَى وَقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ} وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِأَنَّ أحدهُمْ كَانَ يَحْفَظُ قرآنا ثُمَّ يَنْسَاهُ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَقول: «إنَّهُ رُفِعَ» مِثْلَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيّ: حَدَّثَنِي أَبُو أمامة بْنُ سَهْلِ بْنِ حنيف فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ سُورَةٌ فَقَامَ يَقْرَؤُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقَامَ آخَرُ يَقْرَؤُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا فَأَصْبَحُوا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقال بَعْضُهُمْ: ذَهَبْت الْبَارِحَةَ لِأَقرأ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا وَقال الْآخَرُ: مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقال الْآخَرُ: مَا جِئْت إلَّا لِذَلِكَ وَقال الْآخَرُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّهَا نُسِخَتْ الْبَارِحَةَ» وَقوله: أَوْ نَنْسَؤُهَا النَّسْءُ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ وَفِيهِ قولانِ السَّلَفُ: الْقول الْأَوَّلُ يُرْوَى عَنْ طَائِفَةٍ قال السدي: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قال: نَسْخُهَا قَبْضُهَا أَوْ نَنْسَأهَا فَنَتْرُكُهَا لَا نَنْسَخُهَا {نَأْتِ بِخَيْرٍ} مِنْ الَّذِي نَسَخْنَاهُ أَوْ مِثْلِ الَّذِي تَرَكْنَاه. وَكَذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} يَقول مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكْهَا فَلَا نَرْفَعُهَا مِنْ عِنْدِكُمْ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَسَّرَ بِهَذَا الْمَعْنَى القراءة الْأُولَى فَقالوا: مَعْنَى نُنْسِهَا نَتْرُكُهَا عِنْدَكُمْ فَإِنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ.
وقال الْأَزْهَرِيُّ نُنْسِهَا نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا. يُقال أَنْسَيْت الشَّيْءَ وَأَنْشَدَ: إنِّي عَلَى عُقْبَةَ أَقْضِيهَا لِسِتِّ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا أَيْ وَلَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَالْقول الثَّالِثُ نُؤَخِّرُهَا عَنْ الْعَمَلِ بِهَا بِنَسْخِنَا إيَّاهَا. وَالصَّوَابُ الْقول الْأَوْسَطُ. رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: خَطَبَنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقال: يَقول اللَّهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} أَيْ نُؤَخِّرُهَا. وَبِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فَلَا يُعْمَلُ بِهَا {أَوْ نُنْسِهَا} أَيْ نُرْجِئُهَا عِنْدَنَا وَفِي لَفْظٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا.
وعن عَطَاءٍ: نُؤَخِّرُهَا. وَقَدْ ذُكِرَ قول ثَالِثٌ عَنْ السَّلَفِ وَهُوَ قول رَابِعُ أَنَّ الْمَعْنَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} وَهُوَ مَا أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكُمْ وَلَا نَرْفَعُهُ {أَوْ نُنْسِهَا} أَيْ نُؤَخِّرُ تَنْزِيلَهُ فَلَا نُنَزِّلُهُ. وَنَقَلَ هَذَا بَعْضُهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ أَمَّا {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} فَهُوَ مَا قَدْ نَزَلَ مِنْ القرآن جَعَلَاهُ مِنْ النسخة {أَوْ نَنْسأهَا} أَيْ نُؤَخِّرُهَا فَلَا يَكُونُ وَهُوَ مَا لَمْ يُنَزِّلْ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ رَوَى بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ عَطَاءٍ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} أَمَّا مَا نُسِخَ فَهُوَ مَا تُرِكَ مِنْ القرآن (بِالْكَافِ) وَكَأَنَّهُ تَصَحُّفٌ عَلَى مَنْ ظَنَّهُ نَزَلَ مِنْ النُّزُولِ فَإِنَّ لَفْظَ تُرِكَ فِيهِ إبْهَامٌ. وَلِذَلِكَ قال ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يَعْنِي تَرَكَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ مُرَادُ عَطَاءٍ هَذَا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَكْتُوبًا مَتْلُوًّا وَنُسِخَ حُكْمُهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِهِ وَمَا أَنْسَأَهُ هُوَ مَا أَخَّرَهُ لَمْ يُنْزِلْهُ. وَسَعِيدٌ وَعَطَاءٌ مِنْ أَعْلَمِ التَّابِعِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمَا هَذَا. وَقَدْ قرأ ابْنُ عَامِرٍ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} وَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ غَلِطَ وَلَيْسَ كَمَا قال بَلْ فَسَرَّهَا بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَقال مَا نَنْسَخْ نَجْعَلُكُمْ تَنْسَخُونَهَا كَمَا يُقال أَكْتَبْته هَذَا.
وقيل: أَنْسَخُ جَعَلَهُ مَنْسُوخًا كَمَا يُقال: قَبَرَهُ إذَا أَرَادَ دَفْنَهُ وَأَقْبَرَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا. وَطَرَدَهُ إذَا نَفَاهُ وَأَطْرَدَهُ إذَا جَعَلَهُ طَرِيدًا. وَهَذَا أَشْبَهُ بِقراءة الْجُمْهُورِ. وَالصَّوَابُ قول مَنْ فَسَّرَ أَوْ نَنْسَؤُهَا أَيْ نُؤَخِّرُهَا عِنْدَنَا فَلَا نُنْزِلُهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا نَنْسَخُهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا أَوْ نُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَمْ نُنَزِّلْهَا بَعْدَ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فَكَمَا أَنَّهُ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمَرْفُوعِ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ بَعْدُ إلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَ نُزُولِهِ فَيُعَوِّضُهُمْ بِمِثْلِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ نُزُولِهِ فَيُنْزِلُهُ أَيْضًا مَعَ مَا تَقَدَّمَ وَيَكُونُ مَا عَوَّضَهُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ نُزُولِهِ. وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْسَخْهُ اللَّهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُرَادَ يُؤَخِّرُ نَسْخَهُ إلَى وَقْتٍ ثُمَّ يَنْسَخُهُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى بَدَلٍ يَكُونُ مِثْلَهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْبَدَلُ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَنْسَوْهُ أَوْ أَخَّرَ نُزُولَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ بَعْدُ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الْبَدَلَ لِكُلِّ مَا لَمْ يُنْزِلْهُ بَلْ لِمَا نَسَأَهُ فَأَخَّرَ نُزُولَهُ إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا لَمْ يَنْزِلْ يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ لَزِمَ إنْزَالُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ بَلْ مَا كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُ وَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهُ يَكُونُونَ فَاقِدِيهِ إلَى حِينِ يَنْزِلُ كَمَا يَفْقِدُونَ مَا نَزَلَ ثُمَّ نُسِخَ فَيَجْعَلُ سبحانه لِهَذَا بَدَلًا وَلِهَذَا بَدَلًا. وَأَمَّا مَا أَنْزَلَهُ وَأَقَرَّهُ عِنْدَهُمْ وَأَخَّرَ نُسَخَهُ إلَى وَقْتٍ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَدَلٍ فَإِنَّهُ نَفْسُهُ بَاقٍ. وَلَوْ كَانَ هَذَا مُرَادًا لَكَانَ كُلُّ قرآن قَدْ نَسَخَهُ يَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَ نَسْخِهِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ ثُمَّ إذَا نَسَخَهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ مَنْسُوخٍ بَدَلَانِ: بَدَلٌ قَبْلَ نَسْخِهِ وَبَدَلٌ بَعْدَ نَسْخِهِ. وَالْبَدَلُ الَّذِي قَبْلَ نَسْخِهِ لَا ابْتِدَاءَ لِنُزُولِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ نُزُولُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا..
فإن قيل: فَهَذَا يَلْزَمُ فِيمَا أَخَّرَهُ فَلَمْ يُنْزِلْهُ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا وَلَا وَقْتَ لِنُزُولِ ذَلِكَ الْبَدَلِ قِيلَ: مَا أَخَّرَ نُزُولِهِ وَهُوَ يُرِيدُ إنْزَالَهُ مَعْلُومٌ وَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ يُؤْتَى بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَإِنَّ القرآن مَا زَالَ يَنْزِلُ وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا أَخَّرَ نُزُولَهُ فلابد أَنْ يَنْزِلَ قَبْلَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ القرآن نُزُولُهُ لَمْ يُنْسَخْ كَثِيرٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ كَالْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَأُصُولِ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ كَمَسَائِلِ الرِّبَا وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذَا الَّذِي أَخَّرَهُ اللَّهُ مِثْلَ آيَةِ الرِّبَا فَإِنَّهَا مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ القرآن وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ وَكَذَلِكَ آيَةُ الدَّيْنِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ قَبْلَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا مِنْ الشَّرَائِعِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا وَفِيهَا مِنْ الْأُصُولِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا. وَلِهَذَا كَانَتْ سُورَةُ (الْأَنْعَامِ) أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ سُورَةُ (يس) وَنَحْوُهَا مِنْ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا أُصُولُ الدِّينِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الرُّسُلُ كُلُّهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا كَانَتْ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن؛ لِأَنَّ فِيهَا التَّوْحِيدَ فَعُلِمَ أَنَّ آيَاتِ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِلَا رَيْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيته» وَسُورَةُ الْحِجْرِ مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَفِيهَا كَلَامُ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَحَالُهُ مَعَهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ اللَّهُ يَنْسَؤُهُ فَيُؤَخِّرُ نُزُولَهُ مِنْ القرآن كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَهُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} مَكِّيَّةٌ بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ قول الْجُمْهُورِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ. وَكَذَلِكَ قول مَنْ قال: الْفَاتِحَةُ لَمْ تَنْزِلْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ. وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّنَا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ مَنْ قال إنَّهَا مَكِّيَّةٌ مَعَهُ زِيَادَةُ عَلَمٍ.
وَسُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} أَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِهَا سُؤَالُ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ وَسُؤَالُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا بِمَكَّةَ أَوَّلًا ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ نَحْوَ ذَلِكَ أَنْزَلَهَا مَرَّةً أُخْرَى. وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَقالوا: إنَّ الْآيَةَ أَوْ السُّورَةَ قَدْ تَنْزِلُ مَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَمَا يُذْكَرُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ قَدْ يَكُونُ جَمِيعُهُ حَقًّا. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَدَثَ سَبَبٌ يُنَاسِبُهَا نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقرأهَا عَلَيْهِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ جَوَابَ ذَلِكَ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ يَحْفَظُهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَالْوَأحد مِنَّا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَذْكُرُ لَهُ الْآيَةَ أَوْ الْحَدِيثَ لِيُبَيِّنَ لَهُ دَلَالَةَ النَّصِّ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ حَافِظٌ لِذَلِكَ لَكِنْ يُتْلَى عَلَيْهِ ذَلِكَ النَّصُّ لِيَتَبَيَّنَ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَدَلَ لَمَّا أَخَّرَ نُزُولَهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّ هَذَا لَا بَدَلَ لَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ سَيُنْسَخُ فَإِنَّهُ مَا دَامَ مُحْكَمًا لَمْ يَكُنْ بَدَلُهُ خَيْرًا مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْبَدَلُ عَنْ الْمَنْسُوخِ يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ أَطْلَقُوا لَفْظَ (خَيْرٍ مِنْهَا) كَمَا فِي القرآن وَلَمْ يَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ أحد مِنْهُمْ. وَفِي تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ: خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَرْفُقُ بِكُمْ.
وعن قتادة {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} آيَةٌ فِيهَا تَخْفِيفٌ فِيهَا رُخْصَةٌ فِيهَا أَمْرٌ فِيهَا نَهْيٌ. وَهَذَانِ لَمْ يَسْتَشْكِلَا كَوْنَهَا خَيْرًا مِنْ الْأُولَى بَلْ بَيَّنَا وَجْهَ الْفَضِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَمْرِيَّ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ الْمَطْلُوبِ فَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ أَنْفَعَ لِلْمَأْمُورِ كَانَ طَلَبُهُ أَفْضَلَ كَمَا أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَضَبِهِ. فَمَا قالاهُ تَقْرِيرٌ لِلْخَيْرِيَّةِ لَا نَفْيَ لَهَا..
فإن قيل: فَآيَةُ الْكُرْسِيِّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ- وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ- فَقَدْ أَخَّرَ نُزُولَهَا وَلَمْ يَنْزِلْ قَبْلَهَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَلَا مِثْلُهَا. قِيلَ: عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ:
أحدهَا: أَنَّ اللَّهَ قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَلَمْ يَقُلْ بِآيَةِ خَيْرٍ مِنْهَا بَلْ يَأْتِي بِقرآن خَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا. وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ الْآيَاتِ فَقَدْ يَكُونُ مَجْمُوعُ آيَاتٍ أَفْضَلَ مِنْهَا. وَالْبَقَرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا فِي بَعْضِ مَا نَزَلَ وَإِلَّا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا إنَّمَا نَزَلَ مُتَأَخِّرًا. وَقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ} مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَقِصَّةُ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ بَلْ عَلَى الْخَنْدَقِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ عَنْ الْخَنْدَقِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَهُمْ الَّذِينَ حَاصَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ الْخَنْدَقِ وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَكَذَلِكَ سُورَةُ الْحَدِيدِ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا إنَّمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ كَثِيرٍ مِنْ الْبَقَرَةِ. فَفِي الْجُمْلَةِ نُزُولُ أَوَّلِ الْحَدِيدِ وَآخِرِ الْحَشْرِ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مُمْكِنٌ وَالْأَنْعَامِ وَيس وَغَيْرُهَا نَزَلَ قَبْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِالِاتِّفَاقِ.